ترجمة وتحرير نون بوست
فر جورجي، وهو لاجئ روسي، برفقة عائلته إلى السويد عندما كان يبلغ من العمر خمس سنوات، وهو الذي كان بإمكانه التحدث بإطناب عن فضائل “الفولفو”. في الواقع، وصف الطبيب المباشر لحالة جورجي بأن هذا الفتى أكثر أفراد عائلته “تبنيا للقيم السويدية”. كما كان أيضا أكثر الأطفال شعبية في صفه. ففي عيد ميلاده الثالث عشر، عدّد صديقان له الصفات الحسنة التي يتحلى بها؛ كنشاطه وحيويته، وسعادته، وحسن خلقه، وأنه يتقن لعب كرة القدم، وبالطبع أنه ذكي. عموما، ساعد والد جورجي، سوسلان، في تأسيس طائفة دينية مسالمة في أوسيتيا الشمالية، وهي مقاطعة روسية مجاورة لجورجيا.
في سنة 2007، قال سوسلان إن قوات الأمن طالبته بحل الطائفة، التي رفضت تعاقد الكنيسة الأرثوذكسية الروسية مع الدولة، وأنه إن رفض ذلك فسيتم تصفيته. لذلك، فرّ إلى السويد مع زوجته ريجينا وطفليهما. ومن ثم قدّم طلبا للجوء، لكن طلبه قوبل بالرفض من قبل مجلس الهجرة السويدي الذي قال إنه لم يثبِت أنه سيتعرض للاضطهاد إذا عاد إلى روسيا. في الحقيقة، تسمح القوانين في السويد بإعادة طلب اللجوء مرة أخرى. ومن هذا المنطلق، أعاد سوسلان طلبه مرة ثانية في سنة 2014، بعد أن عاش مختبئا في السويد لمدة ست سنوات، وأورد في طلبه أن هناك “ظروفا مأساوية خاصة”، وهو ما من شأنه أن يدفع المجلس لإعادة النظر في كيفية تأثير الترحيل على صحة الطفل النفسية.
وفي هذا الشأن، قال مدير المدرسة التي يرتادها جورجي، ريكارد فلوريدان، في رسالة إلى المجلس “سيكون من المدمر أن أجبر جورجي على مغادرة مجتمعه وأصدقائه ومدرسته وحياته”، كما وصفه بأنه “مثال يقتدى به لدى جميع زملائه على مقاعد الدراسة”؛ فهو طفل يتحدث “بدقة ووعي عاليين، وقد أظهر امتنانا عميقا للمدرسة” على حد قول مدير مدرسته.
أصبح جورجي حاد الطباع وانطوائيا، كما رفض أن ينبس ولو بكلمة واحدة باللغة الروسية. وأفاد أن الكلمات ليست إلا مجرد أصوات، وأنه لم يعد بمقدوره كشف معانيها
في صيف سنة 2015، وقبل فترة وجيزة من دخوله الصف السابع، علم جورجي أن مجلس الهجرة رفض طلب عائلته مرة أخرى. وقد علمت العائلة بذلك من خلال الرسالة التي تلقتها من المجلس، والتي قام جورجي بنفسه بترجمتها لهم، نظرا لأنهم لا يحسنون قراءة اللغة السويدية. وعلى الرغم من ذلك، لم تفقد العائلة الأمل، وقامت باستئناف الحكم.
وفي الأثناء، كان جورجي يصب كل اهتمامه وتركيزه على دراسته، بانتظار تلقي أخبار سارة. ولم يمض على ذلك وقت طويل، حتى توقف أحد أصدقائه في فريق الهوكي عن مزاولة دراسته. وقد شعر جورجي بالذهول عندما علم أن صديقه لاجئ من أفغانستان، وقد تم ترحيله بصحبة عائلته كما لو أنهم “مجرمون”. ونتيجة لذلك، أصبح جورجي حاد الطباع وانطوائيا، كما رفض أن ينبس ولو بكلمة واحدة باللغة الروسية. وأفاد أن الكلمات ليست إلا مجرد أصوات، وأنه لم يعد بمقدوره كشف معانيها.
فضلا عن ذلك، نأى جورجي بنفسه عن عائلته، واتهمهم بأنهم لم يعودوا قادرين على فهمه. وفي خضم كل ذلك، كان شقيقه سافال، البالغ من العمر تسع سنوات، يعمل كمترجم لأسرته. وسأل ذات مرة جورجي أخاه مخاطبا إياه باللغة السويدية “لماذا لم تتعلم اللغة السويدية؟” وترجم سافال هذا السؤال إلى عائلته باللغة الروسية.
في كانون الأول/ديسمبر سنة 2015، رفض مجلس الهجرة الاستئناف النهائي، وأعلموا العائلة في الرسالة “أن عليهم الرحيل من السويد”، وكان من المقرر ترحيلهم إلى روسيا في نيسان/أبريل. وفي محاولة منه للتخفيف من وطأة الخبر، أخبر سوسلان أبناءه أن “روسيا يمكن أن تكون القمر”. قرأ جورجي الرسالة في صمت، وبمجرد الانتهاء من ذلك، ألقاها على الأرض، وصعد إلى غرفته في الطابق العلوي، واستلقى على السرير. وفي هذا الصدد، صرح جورجي أنه أصبح يشعر كما لو أن جسده سائل، وأحس بأن أطرافه أمست لينة ومختلفة. وكل ما كان يرغب فيه هو إغلاق عينيه.
شُخصت حالة جورجي بأنه مصاب “بمتلازمة الاستقالة”، وهو المرض الذي يقال إنه لا يوجد إلا في السويد، ولا يصاب به إلا اللاجئون
علاوة على ذلك، أصبح البلع بالنسبة له فعلا لا طاقة له للقيام به، كما أصبح هناك ضغط كبير على دماغه وأذنيه. من ثم نهض فجأة من فراشه وضرب الجدار بقبضته. وفي الصباح، رفض النهوض من السرير أو تناول الطعام. ولذلك، قام شقيقه سافال بسكب مشروب “كوكا كولا” في ملعقة صغيرة، وحاول سقي جورجي رشفة صغيرة منه، بيد أن الأخير لم يفتح فمه، وانسكب المشروب على ذقنه.
وبعد مضي بضعة أيام، وبتوصية من الجيران، دعا والدا جورجي الطبيبة المختصة بأمراض الأذن والأنف والحنجرة، والعضو في منظمة أطباء العالم الخيرية، إليزابيث هولتكرانتز، التي زارت منزل العائلة بعد ثلاثة أيام من بقاء جورجي طريح الفراش. وقد كان منزلهم عبارة عن كوخ خشبي مزخرف بالأبيض، يقع في مزرعة غاربنبرغ، على بعد مئة وعشرين ميلا شمال غرب ستوكهولم.
أثناء معاينة هولتكرانتز لجورجي، كان الفتى لا يرتدي سوى ملابس داخلية وجوارب رياضية قصيرة، وكان كما لو أنه يغط في نوم عميق. وبمجرد أن لمسته رجفت جفونه لكنه لم يتحرك. وعندما وضعت وسادة تحت رأسه، سقط على الجانب الآخر، لذلك كتبت “إنه لا يستجيب لأي شيء على الإطلاق”. بعد أسبوع، فقد جورجي ثلاثين رطلا، ولذلك حثت هولتكرانتز، الأستاذة في جامعة لينشوبينغ، الأسرة على نقله إلى غرفة الطوارئ في فالون، وهي مدينة تبعد أربعين ميلا عن منزلهم. في واقع الأمر، تدهورت حالة جورجي للغاية؛ إذ لم يأكل منذ أربعة أيام، ولم يكمل جملة واحدة على مدار أسبوع كامل.
لا يعاني المرضى المصابون بهذا المرض من داء عصبي أو جسدي، لكن يبدو أنهم فقدوا الرغبة في العيش
وفي السياق ذاته، أشارت طبيبة في المستشفى إلى أن جورجي “لا يزال على فراش المعاينة”، كما أفادت أن ردود فعله سليمة، وأن نبضه وضغط الدم لديه طبيعيان. كما أكدت أنه عندما تم رفع معصمي جورجي بضع بوصات فوق جبينه ثم إسقاطهما “نزلا على رأسه”. في المقابل، قالت إحدى الممرضات إن جورجي “لا يتجاوب مع العلاج”. وفي اليوم الموالي، أدخل أحد الأطباء أنبوب التغذية لجورجي من خلال فتحة أنفه. وفي هذا الصدد، قال سوسلان إن ابنه “لم يظهر أي مقاومة… لا شيء أبدا”. إثر ذلك، شُخصت حالة جورجي بأنه مصاب “بمتلازمة الاستقالة”، وهو المرض الذي يقال إنه لا يوجد إلا في السويد، ولا يصاب به إلا اللاجئون.
في الواقع، لا يعاني المرضى المصابون بهذا المرض من داء عصبي أو جسدي، لكن يبدو أنهم فقدوا الرغبة في العيش. ويلقب السويديون هؤلاء المرضى “دي أباتيسكا”؛ أي اللامبالون. وفي هذا الإطار، قالت هولتكرانتز “أعتقد أن الدخول في غيبوبة كان نوعا من أنواع الحماية بالنسبة لهم. فهم مثل بياض الثلج، ينأون بأنفسهم عن العالم”.
في البداية، كان عدد الأطفال اللامبالين حوالي ألفين، علما وأن آباؤهم كانوا مقتنعين بأن مصيرهم الموت. ولكن ما هو سبب الوفاة؟ هذا هو الأمر الذي لا يعرفونه؛ إذ كانوا يظنون بأنه إما الكوليرا أو نوع من الطاعون المجهول. وفي وقت قصير، امتلأت أسرّة الوحدة الوحيدة للمرضى النفسيين في ستوكهولم، في مستشفى جامعة كارولينسكا. وفي هذا السياق، قال مدير الوحدة، غوران بوديغارد، إنه شعر بالرهاب والاختناق عندما دخل الغرف التي يوجد بها المرضى. وكانوا “كما لو أن ميشيل أنجيلو “بييتا” يحيط بهم”. فقد كانت الستائر مرفوعة ولكن الضوء كان خافتا، والأمهات كن يهمسن، ونادرا ما تتحدثن مع أطفالهن، وكل ما يقمن به هو التحديق في الظلام.
جلّ الأطفال المصابين بهذا المرض هاجروا من الولايات السوفيتية واليوغوسلافية السابقة، وعدد قليل منهم من روما والأويغور
بحلول سنة 2005، أصيب بهذا المرض حوالي 400 طفل، تتراوح أعمارهم ما بين 15 و18 سنة. وفي مجلة “أكتا بدياتريكا“ الطبية، وصف غوران بوديغارد المصابين بهذا المرض بأنهم “لا يستجيبون، غير قادرين على الحركة، انعزاليون، لا يتكلمون، لا يقدرون على الأكل والشرب، مصابون بسلس البول، ولا يتجاوبون مع المحفزات المادية أو الألم”.
وتجدر الإشارة إلى أن جلّ الأطفال المصابين بهذا المرض هاجروا من الولايات السوفيتية واليوغوسلافية السابقة، وعدد قليل منهم من روما والأويغور. في الحقيقة، كانت السويد تعتبر، منذ السبعينات، بمثابة ملاذا للاجئين، حيث قبلت أعدادا من طالبي اللجوء أكثر من أي دولة أوروبية أخرى. بيد أن تعريف الدولة للاجئين السياسيين قد تقلص مؤخرا. ولذلك، كثيرا ما تحرم العائلات التي هربت من موطنها الأم الذي لا يشهد حالة حرب، من اللجوء.
في رسالة مفتوحة إلى وزير الهجرة السويدي، أكد اثنان وأربعون طبيبا نفسيا أن القيود الجديدة على طالبي اللجوء، والوقت الذي يستغرقه مجلس الهجرة لمعالجة طلباتهم (من الممكن أن يبقي الأطفال في مأزق لعدة سنوات) هو السبب الرئيسي وراء ظهور هذا المرض. كما اتهموا الحكومة “بإساءة معاملة الأطفال بشكل منهجي”. علاوة على ذلك، أجمع الأطباء على نظرية أن المرض كان ردة فعل ناتج عن صدمتين؛ المضايقات التي تعرض لها الأطفال في بلدهم الأم، والفزع من الترحيل، بعد التأقلم مع المجتمع السويدي.
وخصصت المجلة الطبية الرائدة في السويد “لاكارتيدنينغن” العشرات من المقالات، وعدة قصائد للحديث عن هذه المتلازمة. وفي الأثناء، قال رئيس قسم الطب النفسي للأطفال في سكوفده، ميلدريد أودين، “لقد رأت عيناك كل شيء… أعماركم تتماشى مع رجل عجوز فقد أمله في المستقبل”. من ناحية أخرى، صرّح مدير معهد الطب النفسي للأطفال في ستوكهولم، ماغنوس كيهلبوم، بأن هذا الاضطراب بمثابة نوع من الموت المرغوب فيه.
أذاعت برامج إخبارية سويدية لقطات عرضت فيها ترحيل الأطفال المرضى. وفي حين تفتخر السويد بالتزامها بمساعدة أكثر الفئات ضعفا، اعتبرت المرض إهانة للطابع الوطني للبلد
من جانب آخر، استشهد كيهلبوم بمقولة الطبيب النفسي برونو بيتلهايم، الناجي من المحرقة، الذي كتب أن بعض السجناء في معسكرات الاعتقال “استنفدوا تماما، جسديا وعاطفيا على حد سواء، حيث أعطوا البيئة الصلاحية الكاملة للتحكم فيهم، فتوقفوا عن تناول الطعام، وجلسوا صامتين في أحد زوايا الغرفة، إلى أن لفظوا أنفاسهم الأخيرة”.
فضلا عن ذلك، أذاعت برامج إخبارية سويدية لقطات عرضت فيها ترحيل الأطفال المرضى. وفي حين تفتخر السويد بالتزامها بمساعدة أكثر الفئات ضعفا، اعتبرت المرض إهانة للطابع الوطني للبلد. وقد طال هذا الشعور الملك، الذي عبّر عن قلقه منه، حيث قال للصحفيين سنة 2005 “إن ما يحدث لهؤلاء الأطفال الفقراء أمر فظيع” (قام طبيب نفسي بتتبع صبي مصاب بهذا المرض تم ترحيله إلى صربيا، ووجده بعد ستة أشهر، لا يزال فاقدا للوعي، شاحب البشرة، يقبع في منزل مكون من غرفة واحدة، لا يحتوي حتى على الماء).
وفي شأن ذي صلة، وقع مائة وستون ألف سويدي عريضة لوقف ترحيل الأطفال “اللامبالين”، وغيرهم من طالبي اللجوء. في الوقت نفسه، طالبت خمسة من الأحزاب السياسية السبعة في السويد بالعفو عن هؤلاء مرضى. وفي البرنامج التلفزيوني “بعثة التحقيق”، قال أحد الصحفيين المعروفين في البلاد، جيليرت تاماس، “إن الأمر لن يستغرق منا إلا بضع ساعات لإسقاط الحكومة”. من جهته وأقر البرلمان السويدي قانونا مؤقتا أعطى ثلاثين ألفا من الأشخاص الذين كانت عمليات ترحيلهم معلقة، الحق في إعادة مجلس الهجرة النظر في طلباتهم. لذلك، سَمح المجلس للأطفال اللامبالين وعائلاتهم بالبقاء.
ذكر تقرير الحكومة السويدية أن هؤلاء الأطفال ينحدرون من “الثقافات الشمولية”، حيث “من الصعب رسم الحدود بين المجال الخاص للفرد والمجال الجماعي”
من خلال التقرير المكون من مائة وثلاثين صفحة عن هذا المرض، الذي أجري بتكليف من الحكومة، ونشر سنة 2006، أشار فريق من علماء النفس وعلماء السياسة وعلماء الاجتماع إلى أن المتلازمة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالثقافة؛ أي أنه مرض نفسي يتوطن في مجتمع معين. وبالتالي، فإن كل ثقافة تمتلك ما يطلق عليه المؤرخ الطبي لدى جامعة تورنتو، إدوارد شورتر، “ذخيرة من الأعراض”؛ أي مجموعة من الأعراض الجسدية المتاحة للعقل اللاواعي للتعبير البدني عن الصراع النفسي “.
وفي السياق نفسه، يعاني العديد من الناس في بعض مناطق الهند من “متلازمة دات”؛ حيث يشكو المصابون بهذا المرض من أنهم يعانون من العجز الجنسي، ويتوهمون أنهم يفقدون سائلهم المنوي. أما في نيجيريا، فيشعر الطلاب الذين لا يقدرون على تذكر المعلومات أو التعبير عن مشاعرهم بحرقة في رؤوسهم، وغالبا ما يتم تشخيص مرضهم “بمتلازمة الدماغ الفقير”. في الواقع، يتعزز المرض من خلال الاعتقاد المحلي بأن الأعراض هي علامة على معاناة حقيقية، وهو ما يستوجب الرعاية واهتمام الخبراء.
وبالعودة لقضية الأطفال “اللامبالين”، فقد ذكر تقرير الحكومة السويدية أن هؤلاء الأطفال ينحدرون من “الثقافات الشمولية”، حيث “من الصعب رسم الحدود بين المجال الخاص للفرد والمجال الجماعي”. ونتيجة لذلك، يضحي هؤلاء الأطفال من أجل عائلاتهم من خلال فقدان الوعي. وقد جاء في التقرير أيضا أنه “حتى لو لم يتم تقديم أي تشجيع أو توجيه مباشر، فإن الأطفال الذين تأثروا بالتفكير الشمولي قد يتصرفون وفقا لقواعد الجماعة “غير المعلنة”.
شُخصت حالة جارة جورجي، وهي فتاة روسية تدعى ريفيكا، بالإصابة “بمتلازمة الاستقالة”، قبله بثلاث سنوات
ومن المرجح أن التقرير قد تجاهل تأثير الثقافة السويدية على المرض. وعندما أرسلت الحكومة السويدية أطباء وعلماء اجتماع لزيارة كوسوفو، وصربيا، وأذربيجان، وكازاخستان، وقيرغيزستان، لمعرفة ما إذا كان المرض وسيلة ثقافية للرد على الصدمة، قال لهم الأطباء المحليون إنهم لم يسمعوا أبدا عن مثل هذه الأعراض.
في الحقيقة، شُخصت حالة جارة جورجي، وهي فتاة روسية تدعى ريفيكا، بالإصابة “بمتلازمة الاستقالة”، قبله بثلاث سنوات. وقد أصيبت بالمرض عندما كانت في الثانية عشرة من عمرها، بعد أن رفض مجلس الهجرة طلب أسرتها للحصول على اللجوء. وفي هذا الإطار، قالت إلينا زابولسكايا، الصديقة المقربة من العائلتين التي كانت تسكن على مقربة من منزلهما، وتعمل طبيبة في روسيا، أنه “منذ أول يوم سقط فيه جورجي طريح الفراش علمت أنه أصيب بالمرض نفسه”.
على العموم، لم يقض جورجي سوى ثلاث ليال في مستشفى فالون، قبل أن يتم إعادته إلى المنزل مع فراش صحي. وفي الأثناء، كان أصدقاؤه يراسلونه باستمرار، بيد أنهم لم يتلقوا أي رد منه. فضلا عن ذلك، تواصل المعلمون مع عائلته لكي يستفسروا عن سبب غيابه عن الدراسة لمدة أسبوع كامل. من جهة أخرى، قال مدير المدرسة، غفلوريدان، إن زملاءه في الصف كانوا يبكون بحرقة عندما أخبرهم ماذا حصل معه ” لقد انتظر جورجي لوقت طويل للحصول على إجابة حول ما إذا كان بوسعه البقاء هنا في السويد أم لا، ولكنه فقد الأمل، ولذلك أصبح لا يجد سببا للذهاب إلى المدرسة أو حتى العيش”.
بنيت دولة الرفاه السويدية الحديثة على فكرة أنه يجب حماية مواطنيها، والتقليل من المخاطر التي يتعرضون لها
من جانب آخر، أبلغ أخصائي العلاج الطبيعي في المستشفى والدي جورجي بضرورة تشغيل الأنوار في غرفة نومه كل صباح، وبإشراكه في الروتين اليومي للأسرة. ولذلك، قام والداه بنقله إلى طاولة العشاء على كرسي متحرك؛ مسندين رأسه على مسند الرأس، بالرغم من أن عينيه ظلتا مغلقتين. كان يتم تغذيته، من خلال أنبوب، بحوالي خمسين ملليلترا من المغذيات، خمس مرات في اليوم. وفي الأثناء، زارت هولتكرانتز جورجي بعد شهر من دخوله المستشفى، وقد لاحظت أن تعابير وجهه قد “تهللت”، فلم يعد يشعر بالأسى، كما كان في الأيام الأولى من مرضه. وقد أخبرت والديه أن “نقله للبيت جعله يشعر بالسكينة” ولكن هذا كان مجرد تخمين منها.
في الحقيقة، عالجت هولتكرانتز أكثر من أربعين طفلا مصابا “بمتلازمة الاستقالة”، وكانت تتعاطف مع مرضاها بشكل كبير؛ فحتى إجاباتها على الأسئلة الروتينية التي يطرحها أولياؤهم كانت تبكيها. وفي هذا الإطار، قال زوجها مازحا إنها كانت تمارس الرياضات الشاقة، حيث تمضي أياما وأياما في التنقل من منزل مريض لآخر لتوفير الفحوصات الطبية للاجئين بالمجان. وكانت تؤمن بأن الناس لا يمكن أن يتمتعوا بصحة جيدة إلا إذا كانوا يشعرون بالأمان (باللغة السويدية “تريغيت”، والتي لها معنى أكثر شمولية: الثقة، الشعور بالانتماء، التحرر من الخطر، القلق والخوف).
في الواقع، بنيت دولة الرفاه السويدية الحديثة على فكرة أنه يجب حماية مواطنيها، والتقليل من المخاطر التي يتعرضون لها. ففي سنة 1967، قال وزير الشؤون الاجتماعية السويدي إن ” الأمن هو الركيزة الأساسية للفرد. ولن ينبثق أي شيء جيد عن الشعور بعدم الأمان”. وفي دليل علاج “متلازمة الاستقالة” الذي نشر في سنة 2013، والذي يتكون من ستة وسبعين صفحة، أفاد المجلس السويدي للصحة والرعاية الاجتماعية أن المرضى لن يتعافوا إلا إذا سمح لعائلاتهم بالبقاء في السويد. وقد جاء في نص الدليل “يعتبر تصريح الإقامة الدائمة العلاج الأكثر فعالية لهذا الداء. ولا يمكن كشف النتيجة إلا بعد بضعة أشهر إلى نصف سنة من حصول الأسرة على الإقامة الدائمة”.
إذا كان بإمكان الصبي الحصول على إقامة آمنة مع كل أفراد عائلته، فإن التشخيص الذي وُصف له سيُمكنه من التعافي في غضون سنة واحدة
في واقع الأمر، تقوم المبادئ التوجيهية في هذا الدليل على المفهوم الذي وضعه عالم الاجتماع الإسرائيلي، آرون أنتونوفسكي “الإحساس بالترابط”. ووفقا لأنتونوفسكي، تقوم الصحة العقلية على اعتقاد الفرد بأن الحياة منظومة مفهومة ومنظمة يمكن التنبؤ بها. ويعتقد أنتونوفسكي، على غرار فرويد، أن المرض النفسي يُولد من عدم ترابط السرد، أي خروج الحياة عن مسارها.
ووفقا لهولتكرانتز، فإن مهمتها الأكثر أهمية والرئيسية كطبيبة تتمثل في المقدرة على بناء سرد متماسكٍ من الأعراض الجسدية لمرضاها، والذي من شأنه أن يساعدها على تفسير أعراض القلق النفسي الذي يشعرون به. وفي رسالة إلى مجلس الهجرة، كتبت هولتكرانتز أن جورجي “سقط فجأة في نوم عميق، عندما رأى أن أمله الأخير في المستقبل قد سُلب منه”. والجدير بالذكر أنها طبقت هذا الوصف نفسه، مؤخرا، على مريض آخر.
وفي الإطار نفسه، أوردت هولتكرانتز “إذا كان بإمكان الصبي الحصول على إقامة آمنة مع كل أفراد عائلته، فإن التشخيص الذي وُصف له سيُمكنه من التعافي في غضون سنة واحدة”. في المقابل، “إذا كان الصبي لا يملك مكانا آمنا يعيش فيه، فإنه لن يستيقظ أيًا كان البلد الذي سيعيش فيه”. على العموم، يبدو أن الجدة هولتكرانتز ذات الشعر الرمادي، غير مدركة لقوتها والدور الذي تضطلع به، فهي تسهل أحيانا على الأسر “الحصول على أنابيب التغذية” التي تملكها في أقرب الآجال، من أجل أن تساعدهم على تأكيد المعاناة التي يعيشونها لمجلس الهجرة.
ظهرت خلال القرن التاسع عشر، وخلال الثمانينيات، جذور مرض جديد في الولايات المتحدة الأمريكية، حين أصبح الأطباء على وعي متزايد بانتشار الاعتداء الجنسي على الأطفال
فضلا عن ذلك، يمتلئ هاتف هذه الطبيبة النفسية بصورٍ التُقطت للأطفال اللاجئين، وهم يرقدون في السرير بعيون مغلقة، ووجوه شاحبة، والتي تُعبّر عن الكثير من الهدوء الممل. وفي هذا الصدد، كتب الفيلسوف الكندي، إيان هاكينغ، “أن التشخيص يمكن أن يُصبح وسيلة لتعيش التجربة التي يعيشها جميع المجتمع، فغالبا ما تتكيف الأمراض النفسية مع اهتمامات الثقافة ومخاوفها”.
تاريخيا، وفي أواخر القرن التاسع عشر، في أوروبا، عندما كانت النساء يقاومن عجزهن الاجتماعي والجنسي، ظهر نوع جديد من النساء اللاتي اعتبرهن الطب مصابات بالهستيريا، حيث أنهن كنّ يمارسن الجنس بصفة غير منتظمة وشنيعة، فضلا عن أنهن أطلقن العنان لصفات كانت المرأة تحاول التخلص منها، منذ قرون.
كما ظهرت خلال القرن التاسع عشر، وخلال الثمانينيات، جذور مرض جديد في الولايات المتحدة الأمريكية، حين أصبح الأطباء على وعي متزايد بانتشار الاعتداء الجنسي على الأطفال. وتم تشخيص إصابة آلاف النساء بمرض اضطراب تعدد الشخصية. علاوة على ذلك، اكتشف الأطباء أن لديهن شخصيتين أو أكثر من الشخصيات المختلفة، التي -على الأغلب- تعرضت واحدة منها على الأقل لإساءة المعاملة في طفولتها. في الواقع، يتساءل البعض إن كان ما يحصل في المجتمع حقيقيا؟ لكن السؤال الأنسب الذي يجب طرحه في هذا السياق هو “ما الذي ساهم في وجود مثل هذه التصرفات، في مثل هذه الحضارة؟”.
من وجهة نظر شخص غريب، تبدو بلاد السويد نموذجا لليوتوبيا الإنسانية. لكن لمدة عشرين سنة، كان السويديون يجادلون حول الحدود الصحيحة لنوايا بلدهم الحسنة
على صعيد آخر، لم يتفاعل أي بلد مع أزمة اللاجئين، هذه الأزمة الأخلاقية التي نعاني منها في عصرنا الحالي، أكثر من السويد، حيث أن هؤلاء الأطفال سوف يجسدون أسوأ ثمرة من ثمرات الخيال في البلاد، إذا ما قامت السويد بالتخلي عن قيمها. بالإضافة إلى ذلك، يندرج هؤلاء الأطفال ضمن نقاش أخلاقي وسياسي محوري حول هوية هذه البلاد، مع الأبطال (الأطباء)، والضحايا (المرضى)، والأشرار (أولئك الذين يشككون في معاناة الضحايا).
تطرقت صحيفة “داغنس نييتر” السويدية لحقيقة هذا المرض الذي ظهر مؤخرا، حيث أورد المؤرخ السويدي، كارين يوهانسون، “لم تكن تتمتع أخلاقيات التعاطف بهذه القوة، التي تغذيها قوة إثم تاريخي مبهم. كانت هذه الصورة الكاملة للسويد، ذلك البلد الذي يتمتع بثروة كبيرة، ولكنه يستعد لترحيل أكثر الناس عوزا واحتياجا”.
قال جورجي، “لم أعد أمتلك كل ما كنت أملك من إرادة”
من وجهة نظر شخص غريب، تبدو بلاد السويد نموذجا لليوتوبيا الإنسانية. لكن لمدة عشرين سنة، كان السويديون يجادلون حول الحدود الصحيحة لنوايا بلدهم الحسنة. بيد أنه في السنوات الثلاث الماضية، عندما طلب نحو ثلاثمائة ألف لاجئ، من سوريا وأفغانستان، اللجوء في السويد، ازداد شعور السويديين بأن البلاد لم تعد قادرة على أن تكون ذات قلب رحيم، وصدر رحب يسع جميع طالبي المساعدة.
في سياق متصل، حصل حزب الديمقراطيين السويديين، وهو حزب له جذور في الحركة النازية الجديدة، على تأييد 18 في المائة من السكان، مدعيا أن الهجرة تهدد البلد. وعلى امتداد السنتين الماضيتين، وضعت السويد ضوابط على حدودها، وقيودا جديدة على طالبي اللجوء؛ أعلن عنها عضو بارز في البرلمان وعيناه مغرورقتان بالدموع.
منذ ما يقارب عقدين من الزمن، كان السؤال السياسي الذي يشغل العديد من البلدان، بعد انتشال جثث مئات الأطفال من الماء “ماذا يجب علينا أن نفعل بشأن الهجرة؟ ولكن الأمر اللافت للانتباه أن نسبة الإصابة بمرض فقدان الرغبة في الحياة قد انخفض في سنة 2006، بعد أن اتخذ مجلس الهجرة نهجا أكثر تساهلا مع هذه الأزمة، لكن هذه الحالة المرضية لا زالت تنتشر وتصيب العشرات من الأطفال.
أرسل 37 من زملاء جورجي رسائل له، حيث كتبت إحدى صديقاته وتدعى لويز “لقد افتقدناك في هذه الأسابيع القليلة، التي كانت جدّا مملة من دونك”
في السنة الماضية، فقد حوالي 60 طفلا القدرة على التحرك والحديث. علاوة على ذلك، أصبح هناك الآن توافق عام في الآراء على أن هؤلاء الأطفال لا يقومون بمخادعة الناس، ولكن لا أحد يعلم لماذا أصبح هذا المرض منتشرا بصفة خاصة في السويد. في الحقيقة، تحدثتُ مع أكثر من عشرين طبيبا سويديا كانوا قد عالجوا هؤلاء المرضى، الذين فقدوا الرغبة في العيش، أو كتبوا عنهم، ولكني لم أجد منهم أي تفسير مقنع، فضلا عن أنهم ترددوا في اقتراح أي فرضية تتعلق بطبيعة المرض الذي يشكو منه هؤلاء الأطفال.
وفي هذا السياق، قال لي طبيب نفسي للأطفال في مستشفى سكاين الجامعي، الذي يقع جنوب السويد، يدعى بيورن أكسيل جوهانسون، وقد عالج 12 طفلا مصابا بهذه الحالة، “أنا لست مقتنعا بأن هذا يحدث فقط في السويد. ولكن ربما لا يتم توثيق هذا المرض، ومناقشته إلا في السويد؟”.
أرسل 37 من زملاء جورجي رسائل له، حيث كتبت إحدى صديقاته وتدعى لويز “لقد افتقدناك في هذه الأسابيع القليلة، التي كانت جدّا مملة من دونك”، وأضافت في رسالتها إن “كل ما أريد القيام به هو معانقتك”. أما صديقه أولفيه فقد كتب “أنت شخص يستطيع إسعاد جميع من حوله”. من جانب آخر، شعر كل زملاء جورجي بالذعر عندما علموا أن السويد تعتزم ترحيله. وفي هذا الإطار، كتبت ليلا ليزا “كانت صورته دائما راسخة في مخيلتنا، وكان موقف السلطات السويدية بمثابة ضربة قاضية لنا جميعا”.
أصبحت أم جورجي، ريجينا، تلك المرأة الجميلة والحساسة، مصابة بصداع مستمر بسبب مرض ابنها، فضلا عن أنها أصبحت منعزلة ومكتئبة بسبب توقف ابنها الآخر، سافال، عن الذهاب إلى المدرسة
فضلا عن ذلك، كان مدرسو جورجي يزورونه، مرة كل أسبوع، ويقرؤون له الروايات ومقتطفات من كتبه المدرسية، أما أصدقاؤه، فكانوا يزورونه مرتين أو ثلاثا في الأسبوع، ويحادثونه وهو نائم في سريره. وعلى الرغم من أن الأطباء النفسيين لا يعرفون ما إذا كان الأطفال فاقدي الرغبة في الحياة يستطيعون استئناف الحديث، إلا أنهم يوصون بمعاملة المرضى كما لو كانوا واعين بكل ما يدور حولهم، نظرا لأنه عندما زار فلوريدان جورجي في المستشفى، قال له: “نحن نتوق لك”، فشعر أنه يحرك عينيه، على الرغم من أن جفنيه كانا مغلقين.
وفي الأثناء، أصبحت أم جورجي، ريجينا، تلك المرأة الجميلة والحساسة، مصابة بصداع مستمر بسبب مرض ابنها، فضلا عن أنها أصبحت منعزلة ومكتئبة بسبب توقف ابنها الآخر، سافال، عن الذهاب إلى المدرسة. وفي هذا السياق، قال طبيب من مستشفى فالون إن “الخوف والقلق كان ينتاب سافال من أن تقوم الشرطة بالقبض عليه وترحيله”.
وعلى الرغم من أن هولتكرانتز أشارت إلى أن حالة جورجي تعتبر غيبوبة، إلا أنها اعترفت بأن المصطلح ليس دقيقا تماما. ففي كل مرة كانت تزور فيها جورجي، وتقوم بإجراء بعض الاختبارات التي يتفاعل معها المرضى الذين يدخلون في غيبوبة، كان جورجي لا يتحرك. من ناحية أخرى، كانت كلما اختبرت مداعبة إحدى قدميه، وهو الاختبار الذي صممه طبيب الأعصاب جوزيف بابينسكي كوسيلة لتحديد ما إذا كان شلل المريض عضويا أو هستيريا، كان جورجي يحرّك إصبع قدمه الكبير، مما يشير إلى أنه لم يلحق ضرر هيكلي بدماغه.
في الخريف الماضي، أخذتني هولتكرانتز للقاء شقيقتين، من كوسوفو، كانتا مصابتين بمرض جورجي نفسه. وكانت جينيتا، الأصغر سنا، طريحة الفراش، ولم تستجب لمدة سنتين ونصف لأي علاج، منذ أن كانت تناهز الاثنتي عشرة سنة
في أبريل/نيسان، بعد أربعة أشهر من إصابة جورجي بالمرض، تم تأجيل ترحيل العائلة، نظرا لخطورة استعمال أنبوب التغذية أثناء الطيران. ومؤخرا لاحظت هولتكرانتز أنه بدأ يتجاوب ويتفاعل مع العلاج، في حين لاحظ طبيب في مستشفى فالون أن “عضلات يدي وساقي جورجي لا تصدر أي تفاعل، فضلا عن أن يديه لا تتجاوب مع أي اختبار ولا تتحرك. وقد كتب الطبيب في إحدى ملاحظاته، أن جورجي بالكاد باق على قيد الحياة.
في الخريف الماضي، أخذتني هولتكرانتز للقاء شقيقتين، من كوسوفو، كانتا مصابتين بمرض جورجي نفسه. وكانت جينيتا، الأصغر سنا، طريحة الفراش، ولم تستجب لمدة سنتين ونصف لأي علاج، منذ أن كانت تناهز الاثنتي عشرة سنة. وفي رسالة موجهة إلى مجلس الهجرة في أكتوبر/تشرين الأول سنة 2015، حذرت هولتكرانتز من أن “الشيء الوحيد الذي يمكن أن يساعد جميع أفراد الأسرة على الخروج من إحساسهم بالعجز هو توفير الشعور بالأمان لهم”.
بعد مرور سنة، رُفض طلب إقامة العائلة. ونتيجة لذلك، فقدت شقيقة جينيتا، إباديتا، البالغة من العمر خمسة عشر عاما، في غضون أربع وعشرين ساعة، القدرة على المشي. وفي الأثتاء، حاول والدها محرّم أن يجبرها على الذهاب إلى المدرسة، بوضعها على مقعد دراجة هوائية ودفعها. ولكن عندما وصلوا إلى المدرسة، كانت إباديتا تترنح، فحملها محرّم إلى منزلها، حيث بقيت طريحة الفراش على مدى الأشهر الخمسة الماضية.
أوضحت الأم نوريج أن أطفالها تعرضوا للمضايقات في كوسوفو لكونهم غجرا. وفي هذا الصدد، قالت “نحن من الرومان، وليس لدينا بلد، ولكننا نعامل معاملة سيئة هنا”
في واقع الأمر، تعيش هذه الأسرة وسط السويد، في سكن يضم اللاجئين. وعندما زرنا هذا السكن، كانت البنتان تستوليان على غرفة النوم الوحيدة في الشقة، وتنامان على سريرين تم وضعهما في منتصف الغرفة. وبجانب سريريهما، توجد حزمة من الحفاظات. وكانت البنتان تضعان رأسيهما على الوسادة وتنظران إلى تساقط الثلوج من النافذة. كانت جينيتا تضع أنبوب تغذية من خلال فتحة الأنف اليمنى، وإباديتا من خلال فتحة أنفها اليسرى.
وأثناء لقاء الأسرة بمجلس الهجرة، سنة 2014، أوضحت الأم نوريج أن أطفالها تعرضوا للمضايقات في كوسوفو لكونهم غجرا. وفي هذا الصدد، قالت “نحن من الرومان، وليس لدينا بلد، ولكننا نعامل معاملة سيئة هنا”. وأخبرت مجلس الهجرة بأنهم لا يستطيعون العودة إلى كوسوفو، لأنه “لا توجد إمكانية للعيش هناك”. وعلى الرغم من أنها لم تكن تملك الوثائق اللازمة لإثبات ادعاءاتها، إلا أن بناتها أثبتن الآن صحّة أقوالها. قادت نوريج هولتكرانتز إلى غرفة النوم، وعندما سحبت اللحاف من على وجه جينيتا فتحت جفن عينيها بأصابعها. كانت جينيتا تحدّق مثل شخص ميت.
خلال الأشهر التي قضاها جورجي وهو طريح الفراش، قال إنه كان يشعر كما لو كان في مكعب زجاجي ذو جدران هشة، يقع في أعماق المحيط. وإذا تحدث أو تحرك داخله، فإنه كان يعتقد أن الزجاج سوف يتحطم. وبالتالي سوف يغرق في الماء.
أكدت هولتكرانتز أن حالة جينيتا مستقرة، ولكن دماغها في حالة سبات، أو كأنه محفوظ في كيس تخزين للملابس الشتوية. سارت هولتكرانتز إلى الجانب الآخر من السرير وفتحت عيون إباديتا، ولكنها لم تتمكن من العثور على بؤبؤ في عينيها. كانت عيناها بيضاوان، نتيجة لرد الفعل المعروف باسم ظاهرة بيل، حيث تتراجع مقلة العين لحماية القرنية، فاستنتجت هولتكرانتز “أن وضعها ليس معقدا”. ثم قامت بقياس نبض وضغط دم إباديتا فوجدت أنهما طبيعيان، على عكس شقيقتها، التي انخفض نبضها وضغط دمها، خلال السنتين الماضيتين اللتين قضتهما في الفراش.
إثر ذلك، طلبت هولتكرانتز من محرّم مكعبات ثلج، ولكنه لم يتمكن من العثور على أي مكعبات في الثلاجة، لذلك عاد مع كيس من الدجاج المجمد. وضعت هولتكرانتز الدجاج المجمد على معدة أبديتا العارية، واختبرت نبضها وضغط دمها مرة أخرى؛ إذ من المعروف أنه في الوضع الطبيعي لشخص عادي، يُحدث البرد المفاجئ تقلبات في معدل النبض وضغط الدّم، ولكن الإشارات الحيوية لإباديتا ظلت على حالها. طوال هذا الاختبار، كانت نوريج تبكي بصمت وبطريقة غير مزعجة، لا تثير انتقاد أي شخص.
في سنة 1942، تطرق الفيزيولوجي الأمريكي، والتر كانون، إلى ظاهرة تسمى “موت الفودو“، التي لاحظها في ثقافات السكان الأصليين، والتي وصفها كانون “إنها قوة مميتة للخيال، تعمل من خلال إثارة الرعب بصفة متواصلة“.
والجدير بالذكر أن الفتاتان كانتا تتمتعان بجمال أخاذ، وباستثناء بقع حب الشباب التي كانت على ذقن إباديتا، كانتا تتمتعان ببشرة مثالية، وأجساد رشيقة وخفيفة. وعندما قامت هولتكرانتز بتطبيق فحص الثدي على إباديتا، تنفست البنت بشكل أعمق قليلا بعد أن تم لمس ثدييها، ولكن تعابير وجهها لم تتغير أبدا.
لم تقم هولتكرانتز بكتابة أي ملاحظات أثناء فحصها للبنتين، نظرا لأنها لم تلاحظ أي شيء جديد لا تعرفه في حالة جنيتا وإباديتا. وبعد الانتهاء من إجراء جميع الفحوصات، قدمّت العائلة للضيوف صحنا من البسكويت. في الحقيقة، كان للفتاتين ابن عم قد أصيب بذات المرض أيضا. لذلك لم تتردد هولتكرانتز، خلال هذه المقابلة، عن سؤال محرّم وزوجته نوريج، من خلال مترجم روماني، إذا كانوا يظنون أن هذا المرض معد؟ إلا أن الأم قاطعت هولتكرانتز قبل أن يترجم المترجم السؤال قائلة: “لا، لا، لا، لم يكونوا على اتصال مع ابن عمهما عندما كانتا مريضتين”.
في المقابل، راودني الفضول لذلك تساءلت إن كان من الممكن انتقال هذا المرض من أخت إلى أخرى؟ وأشرت إلى أنه حتى الاكتئاب يمكن أن يكون معديا. رفضت هولتكرانتز، التي بدا أنها تنظر إلى تلميحاتي على أنها أبعد عن الواقع، السماح للمترجم بترجمة سؤالي. ولكن نوريج استطاعت فهم الحديث الذي يدور بيننا، وأجابت مباشرة “لقد مرضت لأنها رأت شقيقتها في هذه الحالة”. وفي هذا الإطار، أشار محرّم إلى أن أبديتا عندما قرأت رفض مجلس الهجرة بدأت بالاهتزاز والبكاء وقالت: “لن أتمكن أبدا من رؤية أختي تتعافى”. وقد قالت ذلك لأنها سمعت حوارا جمع الطبيب بوالديها، قال لهما خلاله “إن تصريح الإقامة هو العلاج الوحيد لابنتيكما”.
صرّح رئيس الجمعية السويدية لطب نفس الأطفال والمراهقين، لارس جولسون، أنه “بصفتنا أطباء، لا نملك الأدوات اللازمة لمعالجة هؤلاء المرضى. بالتالي، لا نقدر إلا على الوجود بجانبهم والحرص على إبقائهم على قيد الحياة”
في سنة 1942، تطرق الفيزيولوجي الأمريكي، والتر كانون، إلى ظاهرة تسمى “موت الفودو“، التي لاحظها في ثقافات السكان الأصليين، والتي وصفها كانون “إنها قوة مميتة للخيال، تعمل من خلال إثارة الرعب بصفة متواصلة“. من جهة أخرى، تتميز هولتكرانتز بالعديد من الصفات الحسنة، على غرار تواضعها، وإيثارها للآخرين، فضلا عن سخائها غير المحدود، حيث تسمح السيدة، في أغلب الأحيان، لطالبي اللجوء بالبقاء في منزلها لأشهر أو سنوات.
وفي المقابل، تبدو القصة التي ترويها البروفيسورة عن علّة مرضاها مقنعة للغاية، والتي من المرجح أنها تعزّز، عن غير قصد، الأعراض التي تظهر لديهم. وكما هو الحال بالنسبة لرجل الطب، تتمتع هولتكرانتز بالسلطة الكافية لتشكيل المعتقدات التي يكوّنها الأشخاص عن بيولوجيتهم الخاصة. بمعنى آخر، تساهم هولتكرانتز وغيرها من الأطباء السويديين في خلق الظروف الملائمة لظهور ما يُعرف “بتأثير نوسيبو”، حيث أنه في حال لم تضمن العائلات الإقامة الدائمة، فلن ينجح الدواء الوحيد في شفاء أبنائها. وعلى الرغم من أنه لم تسجل حالات وفاة لمرضى “اللامبالين”، إلا أن البعض منهم بقي طريح الفراش لما يقرب من أربع سنوات.
وفي هذا الصدد، صرّح رئيس الجمعية السويدية لطب نفس الأطفال والمراهقين، لارس جولسون، أنه “بصفتنا أطباء، لا نملك الأدوات اللازمة لمعالجة هؤلاء المرضى. بالتالي، لا نقدر إلا على الوجود بجانبهم والحرص على إبقائهم على قيد الحياة”. كما يعتقد جولسون أن الأطباء تم تكليفهم بحل معضلة ليست طبية، وإنما اجتماعية وهيكلية، وتندرج ضمن مسؤولية الحكومة بالأساس. وأضاف الطبيب أن “الناس يظنون أنهم قد قدموا إلى الأرض الموعودة، إلا أننا لم نرق إلى مثلنا العليا بعد”.
على الأوراق الطبية، تم وصف المرضى على أنهم أشخاص على درجة عالية من السموّ، فضلا عن تمتعهم بذكاء متّقد وحساسية مرهفة، كما أنهم أفضل من يتم استيعابهم داخل عائلاتهم
ومن المثير للاهتمام، أن السويديين يملكون قدرة على لوم أنفسهم عند الفشل في إظهار تعاطفهم تجاه الآخرين. خلافا لذلك، وعند التطرق إلى قضية الأطفال الذين فقدوا الرغبة في العيش، يبدو أن رمزية المرض من الناحية الأخلاقية تسببت في تفاقمه وانتشاره. وفي هذا الإطار، أصبح الصراع القائم لمواجهة هذا المرض بمثابة سعي حثيث من أجل إعادة إحياء القيم الإنسانية المهددة في السويد.
من ناحية أخرى، وعلى الأوراق الطبية، تم وصف المرضى على أنهم أشخاص على درجة عالية من السموّ، فضلا عن تمتعهم بذكاء متّقد وحساسية مرهفة، كما أنهم أفضل من يتم استيعابهم داخل عائلاتهم. خلافا لذلك، اتضح أن الدواء الموصوف للمرضى غير فعال، علاوة على أن المعالجة بالتخليج الكهربائي اعتبرت غير أخلاقية.
ووفقا لما أفادت به طبيبة نفس الأطفال في ستوكهولم، لوتا سبانغنبرغ، للصحيفة، فإنها ترى في تلك الطرق “إجبارا للأطفال على العودة إلى الحياة، وذلك على الرغم من أنهم قد أكدوا على رفضهم لها”. كما أن سبانغنبرغ تعتبر المرض شكلا من أشكال التواصل، بعد أن عجزت الكلمات عن ذلك، حيث أنه يعد بمثابة “وسيلة لإيضاح أن هذا الأمر لا يوصف”.
في الحقيقة، وجد اللاجئون أنفسهم في عزلة، في كنف ثقافة لا تمت لصدماتهم بصلة، وغالبا ما اعتبروا حاملين لأشكال فريدة من التعبير النفسي. وفي الولايات المتحدة، في الفترة الممتدة ما بين الثمانينيات والتسعينيات، كان اللاجئون الأصحاء القادمون من لاوس، يأوون إلى الفراش ويبكون خلال نومهم، ثم لا يستيقظون أبدا. وقد خلص الأطباء إلى أن الكوابيس التي راودتهم قد أرعبتهم حد الموت. وفي كاليفورنيا، في نفس الفترة تقريبا، فقدت 150 امرأة كمبودية، كنّ قد شهدن على تعرض أفراد عائلتهن للتعذيب أثناء حكم “بول بوت”، القدرة على الرؤية.
قال طبيب الأطفال في مستشفى جامعة كارولنسكا، كارل سالين، الذي يقوم بإعداد أطروحة دكتوراة حول اللامبالاة، إنه يرى في رضى الأطباء بترك الأطفال في حالة أشبه بالغيبوبة لعدة أشهر أو سنوات إلى أن تمنحهم السويد الإقامة، أمرا مثيرا للقلق
وعند مقارنة الأمثلة الآنف ذكرها بحالة الأطفال اللامبالين بالبقاء على قيد الحياة، تبدو معاناتهم النفسية متشابهة إلى حد كبير، حيث أنهم يشعرون بالعجز التام، ومن ثم يتجسّد شعورهم على أرض الواقع. وقد وصف الشاعر دونالد مايكل توماس هذه الحالة على أن “اللاوعي يمثل مصدر رموز دقيق ومتحذلق”.
من جهته، قال طبيب الأطفال في مستشفى جامعة كارولنسكا، كارل سالين، الذي يقوم بإعداد أطروحة دكتوراة حول اللامبالاة، إنه يرى في رضى الأطباء بترك الأطفال في حالة أشبه بالغيبوبة لعدة أشهر أو سنوات إلى أن تمنحهم السويد الإقامة، أمرا مثيرا للقلق. وأشار سالين إلى “وجود طريقة أخرى قادرة على إعطاء الاطفال الأمل من خلال معاملتهم بشكل لائق، وعدم تركهم طريحي الفراش مع أنبوب أنفي طوال تسعة أشهر”.
بالإضافة إلى ذلك، يعتقد سالين أن “السؤال يبقى مفتوحا فيما إذا كان هناك بالفعل حل طبي للمشكلة، ذلك أن أحدا لم يحاول إيجاده حقا. وعلاوة على ذلك، لم يتم إجراء سوى عدد قليل من البحوث التجريبية حول المرض، وهي تمثل إحدى الخطوات الضرورية نحو إيجاد وتطبيق العلاجات”.
في أواخر شهر أيار/مايو من سنة 2016، تلقّت عائلة جورجي رسالة أخرى من مجلس الهجرة. ومن بين ما جاء في هذه الرسالة أن “مجلس الهجرة لم يجد أي سبب للتشكيك فيما ورد حول صحة جورجي، وبالتالي، فهو في حاجة إلى بيئة آمنة ومستقرة وظروف معيشية من أجل التعافي
وفي هذا السياق، علق سالين قائلا “لقد حاولت إقناع العديد من الأشخاص بالتعاون معي من أجل القيام بالأبحاث والدراسات، غير أنني واجهت مقاومة بخصوص الاطلاع على ما يحدث داخل أدمغة المرضى، فضلا عن الاعتراف بوجود نظام بيولوجي في هذا العمل”. وأكد طبيب الأطفال أن “الآباء قد أحاطوا أطفالهم بهذا النوع من المعتقدات، التي ترتبط بشكل وثيق بتصريح الإقامة، وهو الأمر الذي يمثل رمز هذه المعركة”.
في أواخر شهر أيار/مايو من سنة 2016، تلقّت عائلة جورجي رسالة أخرى من مجلس الهجرة، التي قامت جارتهم إلينا زابولسكايا بترجمتها على مسامع العائلة. ومن بين ما جاء في هذه الرسالة أن “مجلس الهجرة لم يجد أي سبب للتشكيك فيما ورد حول صحة جورجي، وبالتالي، فهو في حاجة إلى بيئة آمنة ومستقرة وظروف معيشية من أجل التعافي”. ونتيجة لذلك، تم منح الأسرة الإقامة الدائمة في السويد.
وعلى الفور، اندفع والدا جورجي إلى غرفة نوم ابنيهما ليزفا إليه البشرى، غير أن هذا الأخير لم يظهر أي ردّة فعل، وعندها أخبرتهم زابولسكايا أنه “غير قادر على الاستماع إليهم، كما أنه غير مدرك لما يحدث حوله”. وخلال الأسبوعين التاليين، سعى كل من شقيق جورجي، ووالداه، وأصدقاؤه، لمساعدته على استيعاب الأخبار السعيدة، حتى أن أسرته رافقته، وهو على كرسيه المتحرك، إلى حلبة للتزلج على الجليد. وعلى الرغم من متابعة جورجي لزملائه خلال لعبهم الهوكي، إلا أن الهواء النقي لم يحدث تغييرا جليا على نفسية الصبي. في الوقت ذاته، واصل أحد أصدقائه الصراخ قائلا “لقد حصلنا على إجابة إيجابية”، وأضافت الجارة قائلة “لقد حاولنا أن نظهر لجورجي أن حالتنا المزاجية قد تغيرت للأفضل”.
بعد أسبوعين من تلقي الأسرة لخبر الإقامة الدائمة في السويد، قام جورجي بفتح عينيه “لمدة قصيرة… قصيرة جدا”، ولكن الصبي سرعان ما أعاد إغماض عينيه، حيث قال في وقت لاحق إن “الضوء كان مؤلما للغاية، إلا أنني أتذكر رؤية أفراد عائلتي”
كان والدا الصبي على ثقة تامة بأن تعافي ابنيهما أصبح وشيكا. في المقابل، أكد الطبيب النفسي في مستشفى سكونا الجامعي، بيورن أكسيل جوهانسون، أن استيعاب المريض اللامبالي للتغيرات الحاصلة في محيطه قد يستغرق عدة أسابيع وأحيانا بضعة أشهر. فضلا عن ذلك، أوضح جوهانسون أن “حسم الأم الذي يظهر في نبرة صوتها، بالإضافة إلى أسلوبها خلال التحاور مع زوجها، أمران في منتهى الأهمية. في الواقع، يساهم شكل الحوار ضمنيا في مد الطفل بالشجاعة اللازمة من أجل التطلع شيئا فشيئا إلى المستقبل”.
في السادس من شهر حزيران/يونيو، أي بعد أسبوعين من تلقي الأسرة لخبر الإقامة الدائمة في السويد، قام جورجي بفتح عينيه “لمدة قصيرة… قصيرة جدا”، وفقا لما أفادت به جارة الأسرة. ولكن الصبي سرعان ما أعاد إغماض عينيه، حيث قال في وقت لاحق إن “الضوء كان مؤلما للغاية، إلا أنني أتذكر رؤية أفراد عائلتي”. بالإضافة إلى ذلك، اهتز جسد الصبي خلال هذه العملية، كما لو أنه قام بمجهود يفوق قدراته الطبيعية.
وتجدر الإشارة إلى أنه قد تم منح جارة جورجي، ريفيكا، وعائلتها أيضا، الإقامة قبل ثلاث سنوات، وذلك بسبب المرض الذي أصاب الفتاة، وقد تطلب الأمر ثمانية أشهر من أجل تعافيها. خلافا لذلك، لم تكن الجارة زابولسكايا على يقين بالتعافي التام لريفيكا، وهو ما أخبرت به الصحيفة، مؤكدة أن “عقلها ليس في حالة طبيعية، نظرا إلى بطئها الشديد في الاستجابة، حيث أنها تمعن في التفكير لوقت طويل”.
في 26 تموز/يوليو، تخلص جورجي من أنبوب الأنف، الذي رافقه لمدة سبعة أشهر، فضلا عن أن الطبيبة هولتكرانتز قامت بزيارته في ذلك اليوم، والتقطت له صورة
خلافا ريفيكا، نجح جورجي بالتعافي بسرعة أكبر، كما أن والدته قامت بتوثيق تطورات حالته في إحدى دفاتره المدرسية. وبعد ثلاثة أيام من حادثة فتح عينيه، “شرب جورجي القليل من الماء باستخدام الملعقة”. وفي اليوم التالي، “تناول كمية صغيرة من المثلجات”. علاوة على ذلك، قام الصبي “بتحريك يده” في اليوم الذي يليه. وبعد أربعة أيام، حاول جورجي “تحريك جسده“.
في 26 تموز/يوليو، تخلص جورجي من أنبوب الأنف، الذي رافقه لمدة سبعة أشهر، فضلا عن أن الطبيبة هولتكرانتز قامت بزيارته في ذلك اليوم، والتقطت له صورة. كان جورجي يرتدي سروالا قصيرا وقميصا مدموغا بالعلامة التجارية “ديزل”، وقد جلس على أريكة سوداء، ومال برأسه إلى الحائط، شاخصا ببصره إلى الأسفل. وفي الأثناء، كان فمه متراخيا ونظراته تخلو من التركيز، بالإضافة إلى أن ذراعه كانت تبدو متثاقلة، وكأنها منفصلة عن بقية جسده، وحينها بدأ جورجي في الهمس.
كان شعره البني المجعد قد نما بشكل أشبه بممسحة من الفرو، لذلك قالت له هولتكرانتز “ربما عليك أن تقص شعرك”، في حين كانت تمرر يدها على شعره. وعلى الرغم من أن الطبيبة اعتادت على فعل تلك الحركة في كثير من الأحيان، إلا أن الصبي أبدى رفضه لذلك حين اتخذ هيئة متشددة. وحين سألته هولتكرانتز إن كان بإمكانها الاستمرار في لمسه، أجاب جورجي في صوت ناعم بالنفي، وهو ما اعتبرته الطبيبة علامة جيدة، ذلك أنه قد بدأ يعيد رسم الحدود حول جسده.
بحلول فصل الخريف، أصبح جورجي قويا بالقدر الكافي الذي يخول له العودة إلى المدرسة، وقد تجنب أصدقاؤه إجراء محادثات حول مرضه
في الوقت نفسه، بدأ جورجي، على غرار أغلب الأطفال المصابين باللامبالاة، باستعادة قدراته الجسدية، على عكس ترتيب فقدانها، حيث قام في البداية بفتح عينيه، والاتصال بصريا مع عائلته. عقب ذلك، بدأ الصبي بالاعتماد على نفسه عند تناول الطعام، وبعدها عاد إلى المشي، الذي كان مهتزا في البداية، ولكنه أصبح أكثر ثباتا فيما بعد. وفي النهاية، استعاد جورجي قدرته على الكلام باستخدام جمل كاملة.
بحلول فصل الخريف، أصبح جورجي قويا بالقدر الكافي الذي يخول له العودة إلى المدرسة، وقد تجنب أصدقاؤه إجراء محادثات حول مرضه. وفي هذا السياق، قال جورجي للصحيفة “إنهم لا يقومون بطرح الأسئلة، كما أنني أحاول تجنب التفكير في الأمر”. في المقابل، سرعان ما كان يشعر الصبي بالتعب، ذلك أن الحركات، التي كانت تلقائية فيما مضى، قد أصبحت تتطلب جهدا وتأنيا. وفي العديد من المناسبات، كان جورجي يحس أن المسائل الحسابية ترهق دماغه، وهو ما دفعه إلى مغادرة الصف. وفي غضون أسبوع، كان جورجي يمازح زملاء الدراسة، مما أثار دهشة مدير المدرسة، فلوريدان، بقوله “لم نكن نصدق ما يحدث”.
خلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر، زارت الصحفية جورجي في منزله برفقة الطبيبة هولتكرانتز، التي لم تره منذ عودته إلى المدرسة. في الحقيقة، كانت تتوقع رؤية طفل مريض، غير أن جورجي كان دافئا ومتلهفا في الوقت ذاته. وبفضل حصول الصبي على دروس اللغة الإنجليزية على امتداد أربع سنوات، كان الطفل تواقا إلى مقارنة البيتزا الأمريكية، والحلويات، والسيارات، والرياضات مع نظيراتها في السويد. وفي الأثناء، سأل جورجي الصحفية قائلا “حين كنت في المدرسة وأصغر سنا، هل كنت على علم بوجود بلد يُدعى السويد؟”، إذ افترض الصبي عكس ذلك؛ باعتبار أن السويد “بلد مسالم وخال من الحروب والثورات”. كما كان الصبي يظن أن العطلة الوطنية الوحيدة هي “يوم كعكة القرفة”.
تداول الأطباء، الذين كانوا يعالجون معضلة اللامبالاة، على نطاق واسع، حكاية مريضة شابة تعلمت اللغة السويدية حين كانت فاقدة للوعي. ومن هذا المنطلق، كانت هولتكرانتز تأمل أن جورجي قد تعلّم أيضا هذه اللغة خلال فترة إغلاقه لعينيه
والجدير بالذكر أن منزل الأسرة كان مشرقا يتمتع بهواء متجدد، بالإضافة إلى النباتات المتسلقة التي كانت تزين الجدران، وأصص النباتات على النوافذ. أثناء ذلك، سلمت هولتكرانتز جورجي استطلاعا يحتوي على أسئلة قسّمت على ثلاث مجموعات من البيانات، تمت صياغتها حسب مستويات متفاوتة من الثقة في الذات وفي العالم. كما طالبت هولتكرانتز الصبي باختيار الإجابة التي تتوافق مع مزاجه.
كان جورجي معتادا على اختيار الإجابات الأكثر تفاؤلا، من قبيل “سوف أتحسن من أجل نفسي”، و”أنا لا أشعر بالوحدة”، أو “بإمكاني أن أكون جيدا مثل الأطفال الآخرين”، و”أنا راض عن مظهري الخارجي”. وفي حال اختار الصبي خيارا أقل تفاؤلا، على غرار “أجد صعوبة في اتخاذ القرارات”، كان يقوم برسم نجمة بجانب الإجابة ويكتب “في بعض الأحيان، ولكن الأمر سهل في العادة”.
تداول الأطباء، الذين كانوا يعالجون معضلة اللامبالاة، على نطاق واسع، حكاية مريضة شابة تعلمت اللغة السويدية حين كانت فاقدة للوعي. ومن هذا المنطلق، كانت هولتكرانتز تأمل أن جورجي قد تعلّم أيضا هذه اللغة خلال فترة إغلاقه لعينيه، إلا أن الصبي لم يكن حتّى على علم بمقدم معلميه إلى بيته. من جهة أخرى، كان مستوى جورجي الدراسي، في السابق، مقبولا، أما الآن فقد أصبح أقل من ذلك، حيث قال الصبي “إن الأمر ليس سيئا للغاية، ذلك أن مردودي أصبح متوسطا إلا أنني لست أسوأ، حسنا ليس بعد.”
لاحظت الطبيبة زابولسكايا تدهورا على مستوى اللغة عند الصبي، حيث قالت إن الاسرة “لا تزال في طريقها نحو التعافي مجددا”
وفي الأثناء، قدمت والدة جورجي، ريجينا، من المطبخ وهي تحمل طبقا من اللازانيا، واضعة إياه على الطاولة في غرفة المعيشة. في واقع الأمر، كانت الأم وزوجها يشعران بقليل من الدهشة والرهبة تجاه ابنهما، الذي أتم تناول طبق كامل من اللازانيا، بالإضافة إلى ثلاث كعكات من الحلوى، كما أنه كان قادرا على التواصل باللغتين السويدية والإنجليزية. فضلا عن ذلك، عاد الصبي إلى استخدام اللغة الروسية أيضا.
في المقابل، لاحظت الطبيبة زابولسكايا تدهورا على مستوى اللغة عند الصبي، حيث قالت إن الاسرة “لا تزال في طريقها نحو التعافي مجددا”. ومن ثم توجهت هولتكرانتز إلى جورجي بالملاحظة، قائلة “إنه من الطبيعي أن شعورك بالتعب لا يزال متواصلا”. مضيفة أن “الأمر يتطلب القليل من الوقت، وعندها سوف تسترد عافيتك تماما، ونحن واثقون من ذلك”. وفي إشارة إلى بطء تعافيه، أوضحت الطبيبة أنه “قد يكون مرتبطا بالأفكار وليس على مستوى الجسد فقط”.
كان جورجي يشعر أن على والديه بذلا مجهود أكبر من أجل إقناع المجلس بأنهم ينتمون إلى السويد، حيث تساءل “ما أهمية ذهابي إلى المدرسة إذا لم أستطع البقاء هنا في السويد، والحصول على وظيفة في هذا البلد؟
من جانب آخر، تطرق جورجي للأشهر التي قضاها في الفراش، حيث أشار إلى أنه أحس نفسه حبيس علبة زجاجية ذات جدران هشة، موجودة في قاع المحيط. وفي السياق ذاته، أوضح جورجي أنه كان يظن أن من شأن حديثه أو حركته خلق اهتزاز يتسبب في تحطم الزجاج، حيث “أن الماء سوف يتدفق إلى الداخل ويتسبب في مقتلي”. وعند الانتهاء من تناول الطعام، سألت الصحفية جورجي إن كان مدركا أن أسرته قد مُنحت الإقامة بسببه، حيث اعتبر أن السؤال مطروح من قبل أحد معلميه لجديته. وبعدها أجاب الصبي قائلا أنه “حين أفكر في الأمر الآن، لا أعتقد أنني تعمدت الوقوع في المرض، وهو ليس الحال عندما أفكر في الشعور الذي أحسست به داخل قفص الزجاج”.
من جهتها، وحين شعرت بالقلق حول التوجه الذي يتخذه المسار غير المناسب لتساؤلات الصحفية، قاطعتها هولتكرانتز وقالت لجورجي “إذا فهمتك بشكل صحيح، فأنت تقول إنه حتى في حال علمت بأن مرضك سينقذ عائلتك، فلن تخوض تجربة القفص مرة أخرى”. وحينها أجابها الصبي أن “ما أعنيه هو أنني لم أرد أن ينتهي بي المطاف في تلك الحالة، ولم أكن أريد أن أغط في النوم”. وأوضح جورجي أن كل ما كان يريده في البداية، هو أن يتمدد على السرير طوال اليوم، وهو قرار تولد جزئيا نتيجة الغضب الذي شعر به تجاه والديه.
في الحقيقة، كان جورجي يشعر أن على والديه بذلا مجهود أكبر من أجل إقناع المجلس بأنهم ينتمون إلى السويد، حيث تساءل “ما أهمية ذهابي إلى المدرسة إذا لم أستطع البقاء هنا في السويد، والحصول على وظيفة في هذا البلد؟”. ومثل ذلك الفكرة الرئيسية التي حملها الصبي بالتساؤل المستمر حول “ما فائدة تعلمي لشيء ما، إن لم يكن لذلك معنى في المستقبل؟”. كما أضاف بأن “السويد هو البلد الوحيد الذي أعرفه، والذي أستطيع العيش فيه”.
على الرغم من أن تجربة جورجي المتمثلة في الحصار داخل صندوق زجاجي بدت وكأنها حلم بالنسبة للصحفية، إلا أنه قال إن الأشهر الخمسة التي قضاها في الفراش، كانت أبعد من أن تكون حلما
في تلك الفترة، وصل احتجاج الصبي أقصى مراحله، وهو ما عبر عنه قائلا “فقدت آنذاك كل ما كنت أملكه، وحينها شعرت وكأنني تحت المياه العميقة”. أثناء ذلك، كافح جورجي من أجل التعبير بدقة عن التجربة التي مر بها، وأوضح أنها “كانت متعبة جدا، ولم يكن الأمر كما هو الحال الآن، حيث أنني أريد أن أمشي وأركض”. من جهة أخرى، قارن جورجي الأمر بالإفراط في الأكل قائلا “وكأنك فقدت الشهية للأكل”. غير أن الصبي لم يبد راضيا عن وصفه، فحاول إعادة صياغته بالقول “كان جسدي كله وكأنه مثل الماء”.
على الرغم من أن تجربة جورجي المتمثلة في الحصار داخل صندوق زجاجي بدت وكأنها حلم بالنسبة للصحفية، إلا أنه قال إن الأشهر الخمسة التي قضاها في الفراش، كانت أبعد من أن تكون حلما. وفي هذا الخصوص، أفاد جورجي أنه “بعد حوالي بضعة أسابيع أو شهر، فهمت تدريجيا أن الأمر ليس حقيقيا، حيث أن الزجاج لم يكن واقعيا، والآن فهمت أكثر من ذي قبل أنه لم يكن حقيقيا على الإطلاق. ولكن الأمر كان صعبا للغاية، في ذلك الوقت، حيث كنت أحس أن أي خطوة أقوم بها قد تتسبب في مقتلي. لقد كنت أعيش في ذلك الصندوق”.
المصدر: نيويوركر